جاء عن عمر رضي الله عنه موقوفاً قوله : ( إني لأرى الرجل ، فيعجبني ، فأقول : هل له من حرفة ؟ فإن قالوا : لا ، سقط من عيني ) ، وهذا فيه ذم للرجل الذي لا حرفه له ولا عمل مع قدرته على الكسب .
وفي خضم البطاله الحاصلة بين شبابنا في السنوات الأخيرة ، ومع اعترافنا بالمشكلة كواقع ، وشعورنا بما يحسه ويعانية إخواننا وأخواتنا الذين لا يجدون عملاً ، إلا إن الأمر يتطلب النظر إلى الموضوع من عدة جوانب :

أولاً : تنوع أبواب الرزق ومنها الحرف المباحة وخصوصاُ الكسب من عمل اليد والندب إليها وأنها من أخلص وأفضل أنواع الكسب الحلال ولنا في انبياء الله عليهم السلام اسوة حسنة فآدام عمل بالزراعة وحراثة الأرض، وزكريا كان نجاراً ، وادريس خياطاً ، وداود حداداً ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلا رَعَى الْغَنَمَ ) فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأهلِ مَكَّةَ».

ثانياً : ذكر في كتاب ( الحرف في الحجاز في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ) أن العرب كانوا في جاهليتهم يحتقرون احتقاراً زائفا بعض المهن والحرف والتي اجادها الموالي وتفردوا بها ودرت عليهم أموالاً طائلة في زمانهم ، وما أن جاء عصر النبوة حتى أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يحاول جاهدا إزالة هذه الأوهام من عقول الناس فكان يرفع من شأن الحرف المحتقرة في نظر العرب ويجالس العاملين فيها ويرفع من معنوياتهم ويؤاكلهم ويشاربهم (أهـ) ، وعمل اصحابه رضي الله عنهم والتابعين والسلف من بعده بكل المهن وكسبوا من عمل أيديهم فمنهم النساج والبزاز والنجار والحطاب والسقا والجصاص والقفال والخراز وغيرها كثير من الكسب المباح . وإلى وقت قريب كان كثير من الآباء والأجداد في منطقتنا يعملون في البناء واصلاح الطرق وخصوصاً طريق الشمال وعمالاً في شركة التابلاين ورعاة أغنام لدى الغير دون ترفع عن الكسب مع أنهم أعراب من قبائل عديدة وعريقة وعملهم لم يخل بمعدنهم ولا أصالتهم .

ثالثاً : لعل الفهم الخاطيء لقليل النصوص ولد شعوراً لدى البعض بحقارة بعض المهن وخبث كسبها ، لكن الصحيح أن المقصود بالخبيث الرديء ومنه قوله تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) يعني التمر الردي ، ومن هنا فلا توجد مهن محتقرة إلا ما دل الشرع صراحة على حرمتها وحرمة بيعها والاتجار بها ، فديننا دين عمل وكسب وهمة .

رابعاً :يجب أن نقدر لكل انسان حرفته وعمله واسهامه في بناء مجتمعه ولا نقلل من أهميتها ، فيقول علي رضي الله عنه: ( قيمة المرء ما يحسن ) ومن الحسن أن يطور المرء نفسه بعلم وخبرة واكتساب معرفة أو صناعة أو حرفة ، كما يجب أن نؤمن بتنوع امكانات الناس وقدراتهم التي حباهم الله اياها ( كل انسان ميسر لما خُلق له ) وهذا يقتضي تنوع المهن والحرف والمعاشات .

خامساً : الأعمال والأشغال كثيرة ( وقد لا تكون بطموح بعض الشباب وامنياتهم وخصوصاً المؤهلين وهذا حق لهم ) لكن اعمل بالمفضول حتى تحصل على الفاضل وبلادنا فيها خير كثير وبركه ، والأمثلة نعيشها في واقعنا فيأتينا العديد من اخواننا من بلاد قاطبة للعمل والكسب ويحصلون على عوائد مجزية من أعمالهم وحرفهم ولو يعلم ابن الوطن سر هذه الأعمال واحترافها لكسب الكثير الكثير فبعض الحرفيين يكسب من حرفته عشرات الآلاف مضاهياً رواتب كبار مدراء الشركات والمصالح . وهناك من أعرفه ومن قد تعرفونه أنتم كان يشغل وظائف حكومية وتركها طواعية أو مجبراً لأمر قدره الله عليه ففتح الله له أبواب الرزق من العمل غير الرسمي وتضاعف رزقه وتيسرت أموره .

سادساً : إذا كان من واجب الدولة في الاسلام كفالة الحاجيات الأساسية لمن لا يستطيع العمل وكذلك تهيئة الفرص وأبواب العمل للناس وهو ما نراه اليوم من ولاة أمرنا الذين نحسن الظن بهم ولا نشك في حبهم لمواطنيهم وفتح آفاق العمل لهم ، فإن أوجب الواجب على الإنسان ابتداء أن يبذل وسعه في طلب رزقه بنفسه في مدينته أو خارجها ولا يؤثر البطالة ، فإذا كانت الوظائف الحكومية باباً واحداً فإن الرزق مفتوح في أبواب عديدة غيرها مثل الحرف والنقل والبيع والشراء وكما جاء في الحديث ( تسعة اعشار الرزق في التجارة ) . ويقول الشيخ ابن حميد في احدى خطبه : ( إن الإسلام لم يجعل لمتبطل كسول حقاً في صدقات المسلمين وإحسانهم، وما ذلك إلا ليدفع القادر إلى العمل والكسب الحلال .. ) .


سابعاً : الصبر على طلب الرزق ، وخزائنه بيد الله وحده وهو الكريم وهو أرحم بعباده ، والابتلاء سنة الله في كونه ، فالامورقد تكون صعبة في البداية وقد يجد طالب الرزق من التعب والمشقة والحاجة ثم درجة درجة تتغير أحواله بالجد والمصابرة والتوكل على الله والرضا بما يقسمه له من رزقه ، وكثير من تجار هذه المنطقة خصوصاً بدأو صغاراً بل أن بعضهم كان حمالاً أو سقا ثم فتح الله عليه من رزقه وكل زمان له فرصه .

ثامناً : ليكن قدوتنا في العمل والكسب البشر الرفيع ( الأنبياء عليهم السلام ) ، ولا نلقي بالاً لأفعال وأفكار البشر الوضيع ( أهل الجاهلية ) في احتقار بعض المهن وصنوف الكسب الحلال . وكما بدأت المقال : ( لا تسقط من عين عمر ) .

ولكل من لم يجد عملاً من اخواننا وأخواتنا أقول لهم : اللهم إن كان رزقهم في السماء فأنزله ، وإن كان في الأرض فأخرجه ، وإن كان نائيا فقربه ، وإن كان قريباً فيسره . والله ولي التوفيق ،،،