05-25-2018 03:55 PM عرعر اليوم ـ جسار مطيران :ضمن فعاليات الليالي الرمضانية والتي تقيمها الهيئة العامة للثقافة وينظمها النادي الأدبي الثقافي بالحدود الشمالية أقام النادي أمسية أدبية حملت عنوان " المدائح النبوية في مرآة الاستشراق المعاصر " للأستاذ الدكتور حسن البنا عزالدين وأدار الأمسية الأستاذ الدكتور الهادي العيادي حيث جاء فيها : " المدائح النبوية في مرآة الاستشراق المعاصر " للأستاذ الدكتور حسن البنا عزالدين أود أن أقدم بدايةً بإيجاز هنا عن منهجي في دراسة أعمال المستشرقين وترجمة بعضها إلى اللغة العربية. إنني أحرص في هذا المقام أن أعود أولاً إلى ما قام به أهل الأدب العربي ونقاده ودارسوه وأثبت ما فيه على نحو خاص من نواحي الاجتهاد والابتكار حتى يشكل صورة مقابلة لما أنتجه هذا المستشرق أو ذاك في السياق نفسه. وبهذا يكون أمام القارئ العربي والمستشرق نفسه على السواء صورتان للموضوع نفسه ليحكم بنفسه. كذلك لا أتورع لحظة في كشف أي سوء فهم للأدب العربي في تلك الدراسات التي أعرض لها أو أترجمها، وقد فعلت هذا في ستة كتب كاملة قمت بترجمتها إلى العربية، وقدمت لها بمقدمات مطولة، تعد دراسات تمهيدية ومراجعات نقدية للأعمال المترجمة نفسها. أما المحاضرة الراهنة فسوف أبدأ فيها أولاً بذكر حديثين شريفين عن المدح والمداحين، ثم أعرج على التعريف بالمدائح النبوية، مع إشارة إلى مكانة المديح في الشعر العربي منذ الجاهلية حتى اليوم، ماضياً إلى ذروة المدائح النبوية في العصر المملوكي وارتباطها بالتصوف في ذلك العصر. بعد ذلك سوف نرى أن المدائح النبوية ذاعت وانتشرت واشتهر بعض شعرائها وأنشئت معارضات وتشطيرات وتخميسات وتسبيعات كثيرة لبعض المدائح المعروفة، كما تطورت المدائح في الوقت نفسه إلى ما يعرف بالبديعيات. لقد استمرت المدائح النبوية واستمر تأثيرها على الشعر العربي حتى وقتنا هذا. من هنا كان علينا أن نشير إلى عناية القدماء والمحدثين العرب والمسلمين بها، وذلك في مقابل عناية المستشرقين المعاصرين بالمدائح نفسها حتى وصل تأثير هؤلاء المستشرقين إلى الباحثين العرب المعاصرين، ومنهم أساتذة للأدب العربي في الجامعات السعودية على نحو خاص. هنا يمكننا أن نطرح سؤالاً ملحاً حول مفهوم الاستشراق نفسه فيما يتصل بالأدب العربي على أقل تقدير. فهل عندما نذهب إلى الغرب باحثين ونحصل على درجات علمية عليا في الأدب العربي من خلال مناهج ‘الاستشراق’ ثم نعود إلى بلادنا وندرس الأدب العربي من خلال هذه المناهج في معاهدنا، هل نعد ‘مستشرقين’، أم أن الاستشراق في حاجة إلى إعادة تعريف في ضوء عملية التأثر هذه؟ بعبارة أخرى، متى يعد الدارس في الأدب العربي ‘مستشرقا’، سواء أكان عربيًّا مسلماً، أو غير مسلم؟ أخيراً ثمة بعض اللوحات الفنية الاستشراقية التي صورت جو المدائح لفنانين غربيين زاروا تركيا ومصر وبلاد المغرب العربي وتركوا لنا لوحات تستحق التأمل لأنها تعكس جو الشعر والتاريخ المصاحب للمدائح النبوية، وإن تأخرت قليلاً عن العصر المملوكي الذي انتشرت فيه تلك المدائح بصورة خاصة. بطبيعة الحال، لا يمكن أن نغفل بعض المآخذ التي أخذها بعض الباحثين على المدائح النبوية وما في بعضها من غلو وقوادح عقدية، تستحق التأمل كذلك في ضوء الدور الإيجابي الذي لا يمكن إنكاره للمدائح نفسها. حديثان شريفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ‘‘إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ.’’ هذا الحديث حديث صحيح رواه مسلم تحت عنوان: باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط، وخيف منه فتنة على الممدوح. كما رواه غيره بألفاظ مختلفة منها: أن قال النووي في شرح مسلم: ‘‘النهي محمول على المجازفة في المدح والزيادة في الأوصاف، أو على من يخاف عليه فتنة من إعجاب ونحوه إذا سمع المدح، وأما من لا يخاف عليه ذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة؛ بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كنشطه للخير والازدياد منه أو الدوام عليه أو الاقتداء به كان مستحباً.’’ أما الحديث الشريف الآخر فهو قوله صلى الله عليه وسلم، ‘‘لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله.’’ وقد فهم بعض شعراء المدائح هذا الحديث على ظاهره الواضح؛ بمعنى أن لهم أن يمدحوا رسول الله بما أرادوا ما عدا التشبه بالنصارى في مدح ابن مريم. لكن هناك تفسيراً آخر للحديث قد نشير إليه فيما بعد. الدولة المملوكية ونشأة المدائح النبوية الدَّولَةُ المَملُوكِيَّةُ أو السَّلطَنَةُ المَملُوكِيَّةُ أو دَولَةُ المَمَالِيك أو سِلطَنَةُ المَمَالِيك هي إحدى الدُول الإسلاميَّة التي قامت في مصر خِلال أواخر العصر العبَّاسي الثالث، وامتدَّت حُدُودها لاحقًا لِتشمل الشَّام والحجاز، ودام مُلكُها مُنذُ سُقُوط الدولة الأيوبيَّة سنة 648هـ، حتَّى بلغت الدولة العُثمانيَّة ذُروة قُوَّتها وضمَّ السُلطان سليم الأوَّل الديار الشَّاميَّة والمصريَّة إلى دولته بعد هزيمة المماليك في معركة الريدانيَّة سنة 923هـ. في تلك الحقبة تعرضت الخلافة الإسلامية في بغداد للسقوط على يد المغول من ناحية وفي بيت المقدس ومصر والشام على يد الصليبيين من ناحية أخرى. كان للشعراء دور كبير في مقاومة هؤلاء الغزاة سواء بالقتال والاستشهاد أو بتعظيم الرسول الكريم في مدائحهم دفاعاً عنه أمام الغزو الصليبي الذي اتخذ من الدين ذريعة لمهاجمة العرب والمسلمين طمعاً في الاستيلاء على فلسطين بصفة خاصة، كما أخذ الشعراء في تلك المدائح يدعون لنصرة الإسلام وقتال أعدائها، والجهاد في سبيل الله، مقدمين القدوة من جهاد الرسول وصحابته، وشجاعتهم وصبرهم، بالإضافة إلى التشفع برسول الله وطلب نصرته. لكن في الوقت نفسه كان هناك صراع داخلي بين المماليك الذين استأثروا بالسلطة والعرب المحكومين من حضر وعربان، أصحاب البلد ومنهم رسول الله. لذلك نشأ سخط على الحكام المماليك، تمثل هذا السخط في الالتفاف حول آل البيت، والتغني بكل ما هو عربي، والتعريض بغيرهم داخل المدائح النبوية حتى لا يستطيع أحد من الحكام أن ينكر عليهم ذلك. الغريب في الموضوع أن الحكام المماليك وخصوصاً في الدولة الثانية هم الذين ساعدوا على توجه الناس إلى فن المديح النبوي، كما شجعوا على التصوف، واهتموا بالمواسم الدينية على نحو لا مثيل له، وظهرت المحامل التي كانت تحمل كسوة الكعبة إلى مكة من مصر، ترافقها احتفالات دينية شعبية ورسمية مهيبة في الذهاب والإياب، مما كان يضفي أحاسيس وجدانية صادقة، تعبر عن نفسية الشعب أصدق تعبير. هكذا أسهم الشعراء عبر المدائح النبوية في جهادهم المزدوج ضد أعدائهم وملوكهم على السواء، وفاضت دواوينهم بهذه المدائح بصورة واضحة، وصلت أحياناً إلى دواوين كاملة كما حدث مع الشاعر الشهاب الخلوف (829-899هـ) وشعبان الآثاري، وعبد الكريم الصرصري (ت 852هـ)، ومحمد بن أحمد الباعوني، وعائشة الباعونية (866-922هـ). وهذه الأخيرة يمكن أن تكون المرأة الوحيدة في التاريخ الإسلامي، التي بلغ عدد مؤلفاتها ما يزيد عن عشرين مؤلفاً، تدور في أغلبها حول الرسول الكريم، شعراً ونثراً، كما أسهمت في فن البديعيات، الذي نشير إليه بعد قليل. تدور معاني المديح النبوي حول شخصية الرسول الكريم بكل تفاصيلها، مثل المقدمات التي سبقت ولادته الكريمة، وحياته قبل البعثة، وكراماته التي عرفت عنه، وسيرته بين أصحابه، والمكانة العليا التي وضع فيها بين الأنبياء والناس، وما عرف عنه من فضائل وصفات. لا شك أن الشعر العربي عرف المديح منذ الجاهلية، وكان له وظائف اجتماعية مثل أن يفتدي شاعر مثل علقمة أخاه شأس من بين يدي الحارث بن جبلة الذي هزم المنذر بن ماء السماء وذبحه في معركة عين أباغ (سنة 554م) بأن يمدحه بقصيدة (المفضلية رقم 119): طحا بك قلب في الحسان طروب/ بعيد الشباب عصر حان مشيبُ لقد عفا الحارث عن شأس أخي الشاعر، بل أعطاه كذلك أسرى بني تميم الذين كانوا عنده، مقابل قصيدة علقمة، فيما يشبه طقوس الافتداء في المجتمعات القديمة. شاعت قصيدة المدح كما نعرف جميعاً على نحو خاص في العصر العباسي عند شعراء مثل أبي تمام والبحتري والمتنبي، فكان لها دور كبير في تثبيت حكم الخلفاء عبر إشاعة هذا المديح أو ذاك بين أوساط الناس العامة والخاصة. هكذا سار نص ابن قتيبة في الشعر والشعراء حول بنية القصيدة العربية، التي من الواضح أنه كان يقصد قصيدة المدح في عصره، فذكر في هذا النص أن الشاعر المادح بعد أن يعرض للنسيب الذي يميل القلوب العاشقة، والرحلة المضنية علىالناقة، يبدأ في المديح، فيبعث الممدوح على المكافأة، ويهزه للسماح، ويفضله على الأشباه، ويصغِّر في قدره الجزيل. يرى معظم الباحثين أن المدائح النبوية موجودة منذ أن بعث الله رسوله بالإسلام ليهدي قومه والعالمين، والشواهد التي يأتون بها تثبت هذا حقًّا، منذ الأهازيج التي استقبل بها الرسول في المدينة، وقصيدة الأعشى التي لم يستطع أن يقابل الرسول ليلقيها بين يديه، وقصيدة كعب بن زهير التي أنقذته من الموت ونال بردة الرسول مكافأة له. وقد توالت المدائح النبوية بعد ذلك لدى الشعراء في العصر الأموي وخصوصاً لدى شعراء آل البيت مثل الكميت بن زيد وغيره، وفي العصر العباسي لدى شعراء مثل الشريف الرضي، حتى وصلنا إلى العصر المملوكي وبعده العصر العثماني فالإحيائي عند البارودي وبعده شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم. لاحظ بعض الباحثين أنه على الرغم من الإسهاب والتفصيل في شعر المديح لصفات الرسول وشخصيته، فإننا نكاد لا نعثر على ذكر وفاته، وكأن الشعراء كانوا يرون أن حياته على هذه الأرض موصولة مستمرة، لم يأت عليها موت، فهم يقفون أمام قبره يخاطبونه مخاطبة الحي الحاضر أمامهم، يسمع خطابهم، وينصت لهمومهم وشكاواهم وأدعيتهم وشفاعاتهم به، هاكم مثالاً من قول الباعونية أمام قبر الرسول الكريم: يا أكرمَ الشفعاءِ جاريةً لها قلبٌ يُقَلَّبُ في لظى بُرَحائهِ ولهُ رجاءٌ في جميلكَ يا هدى أَمَليْ فَجُدْ كرماً لهُ برجائهِ وأدِمُ لهُ الإمدادَ يا خير الورى أبداً ودارِكْ داءَهُ بدوائهِ واشفعْ إلى المولى بتبليغِ المنى من جُودهِ الوافي وجمِّ عطائهِ ابتدع الشعراء في العصور المتأخرة تقليداً جديداً، تمثل في إرسالهم قصائدهم النبوية لتنشد أمام الروضة الشريفة في المسجد النبوي، وكثيراً ما كانوا يذهبون بأنفسهم إلى هناك تحقيقاً لهذا الأمر، واستجلاباً للبركة، وأملاً في ذيوع قصائدهم تلك بين الناس، ورجاء العفو عن زلاتهم بشفاعة الرسول الكريم. وقد نظم السلطان عبد الحميد قصيدة مديح في الرسول نقشت على الحجرة النبوية الشريفة سنة 1191هـ. وله آذان مسجل بصوته. كذلك كتبت قصيدة البردة للبوصيري على الإطار الأسفل من سقف المسجد الذي يشتمل على قبره في الإسكندرية حيث توفي. نشأة البديعيات من رحم المدائح النبوية أما البديعيات فهي قصائد شعرية مضمونها المديح النبوي، وقالبها فنون علم البديع، الذي أكسبها هذه التسمية، حيث جعل أصحابها كل بيت يشف عن فن من فنون هذا العلم تارة، وبذكر اسم الفن صراحة تارة أخرى، حتى يصبح شاهداً من شواهد أحد الفنون البديعية. لهذا الربط بين المديح النبوي والبديع مردود سلبي، أضعف الشعر وجعل متكلفاً متعملاً ثقيلاً. لعل أشهر شاعر عرف ببديعياته هو صفي الدين الحلي، إذ نظم قصيدة معارضة لبردة البوصيري، في مائة وخمسة وأربعين بيتاً، أشار فيها إلى مائة وواحد وخمسين نوعاً بديعيًّا. عني الأدباء بالمدائح النبوية ولعل أشهر كتاب جمع تلك المدائح في كتاب هو المجموعة النبهانية في المدائح النبوية، جمعها العلامة يوسف بن اسماعيل النبهاني، رئيس محكمة الحقوق في بيروت، في أربعة مجلدات تربو على ألفي صفحة. علاوة على هذا، هناك تلك الشروح والمعارضات والتشطيرات والتخميسات والتسبيعات للمشهور من تلك القصائد وخصوصاً بردة البوصيري التي ألفت كتب في إعرابها وفي الدفاع عن صاحبها كذلك. أما الدارسون والمؤلفون العرب المحدثون فقد عنوا بهذه المدائح عناية واضحة؛ حيث درسوها في كتب مثل زكي مبارك، ومحمود علي مكي، ومحمود سالم محمد، وعلي أبو زيد (كتابه عن البديعيات: نشأتها وتطورها وأثرها). كذلك خصص عبد الله الطيب جزءاً كبيراً (فوق المائتي صفحة) من الجزء الرابع من المرشد للمدحة النبوية. أيضاً هناك كتاب بعنوان تناص الشعر العربي الحديث مع بردة البوصيري، تأليف محمد فتح الله مصباح (2011م)، وكتاب بعنوان محمد في شعر النصارى العرب، لمحمد عبد الشافي القوصي، تقديم عبد العزيز بن عثمان التويجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، 1432هـ/2011م. كذلك هناك رسائل علمية درست المدائح النبوية في جامعات مصرية وسودانية وجزائرية، من منظور نحوي على نحو خاص: بناء الجملة الاسمية في شعر الإمام البوصيري، لأحمد الصغير (1994م)، وتعليق شبه الجملة في ميمية البوصيري، لمحمد أحمد الصديق حاج علي (1434هـ/2013م)، وبناء الجملة الطلبية في بردة البوصيري، دراسة توليدية تحويلية، لياسمينة ضامن (1436-1437هـ/2015-2016م). والشعر العربي في القرن التاسع عشر الميلادي/الثالث عشر الهجري، لمنال سليم سالم النخال، الجامعة الإسلامية بغزة (1434هـ/2013م)، والصور البيانية في قصيدة نهج البردة لأحمد شوقي وهي رسالة مقدمة إلى جامعة شريف هداية الله الإسلامية الحكومية بجاكرتا (1437هـ/2016م)، والصور البيانية في المدحة النبوية عند حسان بن ثابت، لحميد قبايلي، جامعة قسنطينة (2003-2004م). أما المقالات بالعربية عن المدائح النبوية فكثيرة لا حاجة إلى عدها هنا، لكننا يمكن أن نشير إلى موضوعاتها، فهناك مقالات عن أثر المدائح النبوية في البلاغة العربية، والبديعيات الخمس في مدح الرسول، والبديعيات في الأدب العربي، والبعد الصوفي في قصيدة البردة، والتناص القرآن في قصيدة المديح النبوي، والمدائح النبوية والبديع، والمدائح النبوية في عصر الحروب الصليبية، وفي الشعر الأندلسي عهد الموحدين، والمديح النبوي في الشعر السوداني، وهذه المقالة للدكتور حسين النور يوسف، والمديح النبوي في الشعر العربي في مصر في العصر العثماني، وشعرية الوقفة في أحداث المدحة النبوية: العصر المملوكي، وفنية شعر المدح النبوي في الأندلس، وقصيدة البردة للبوصيري، دراسة أدبية، وهذه الدراسة لباحث من جامعة البنجاب، لاهور، باكستان (2017م)، وباحث آخر من الجامعة نفسها يكتب عن الشعر الأردوي والأدب العربي بين التأثر والتأثير، (بعد 2014م)، ومقاربة اصطلاحية لأنماط قصيدة المديح النبوي، لباحث مغربي (1988م). أخيراً هناك مقالة بعنوان قوادح عقدية في بردة البوصيري، لعبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف، مجلة البيان (لندن)، 1999م، وفي العدد نفسه من المجلة نفسها مقالة أخرى بعنوان مظاهر الغلو في قصائد المديح النبوي لسليمان بن عبد العزيز الفريجي. هذه كلها كتب ورسائل ومقالات بالعربية عن المدائح النبوية وما يتصل بها من بديعيات ومدروسة نحويًّا وأدبيًّا ونقديًّا. وكلها تستحق القراءة والمراجعة والتعليق، والمقارنة. لكن المقام بالطبع لا يسمح بهذا. لذلك سوف نتناول أهم النقاط التي عنت لنا فيها وخصوصاً بعد مقارنتها بالدراسات الاستشراقية المعاصرة للمدائح نفسها. لكننا يمكن أن نتوقف قليلاً عند أستاذ مهم للأدب العربي هو عبد الله الطيب الذي أشرنا إليه منذ قليل. يرى الطيب أن ‘‘نقادنا أهملوا باب المديح النبوي وقسمتهم لأطوار الشعر العربي بعد زمان صدر الإسلام’’ إلى عصور العصر العباسي الأول والثاني والثالث وعصر الانحطاط وعصر النهضة والعصر الحديث تنطوي على عنصر من الرغبة المريضة في أن ينتسب الناس إلى أوروبا وحضارتها، بحكم أنهم يؤرخون عصورهم الأدبية بالطريقة نفسها. يرى الطيب أن التأريخ الإسلامي والعربي معاً يكذبان هذه التصنيفة الخاطئة لعصورنا. فقد قامت بعد سقوط بغداد دول إسلامية قويات، وامتدت رقعة الإسلام، ونبغ فيها العلماء والأدباء في الهند وسمرقند وتمبكتو وبلاد المغرب وبلاد جاوة وقرع العثمانيون أبواب فيينا بصلاصل الحديد. هكذا برز في العصر الذي يقال له عصر الانحطاط السيوطي وابن حجر وابن تيمية وابن القيم وابن الخطيب وابن خلدون وغيرهم. وفي الشعر كان في هذه الفترة شعراء المديح النبوي المفلقون، وهؤلاء أهملهم المستشرقون عمداً وهم في ذلك معذورون. من يلوم مستشرقاً على ألا يؤرخ لمن يقول: جاء المسيح من الإله رسولا فأبى أقل العالمين عقولا قوم رأوا بشراً كريما فادعوا من جهلهم لله فيه حلولا ولكن المسلمين غير معذورين إذ أهملوا درس هذا الشعر، وهو جزء جوهري من تأريخ الشعر العربي وإهماله خطأ في باب الدرس عظيم. وهنا ينبه الطيب على كتاب زكي مبارك وكتابه عن المديح النبوي، ويترحم على شوقي والبارودي وجيلهما لأنهم انتفعوا بالمديح النبوي ونفعوا به. (ص28-29) يبدأ الطيب بعد ذلك في استعراض أطوار المدحة النبوية وبعض أمرها: من طور الدعوة ومديح أبي طالب عم رسول الله إياه، والأعشى الكبير وكعب بن زهير وحسان وغيرهم. ثم طور السياسةالذي لم تخلُ منه المدحة في طورها الأول، لكن في هذا الطور الثاني كان مدح الرسول مقصوداً به الانتصار لدعوة سياسية بعينها، هي دعوة آل البيت وشيعتهم، فكان استنجاداً بدعاء يتوسلون فيه به لينصرهم الله على من غصبوا آله حقهم. أما الطور الثالث فهو طور التعبد الممهد،أي التوطئة لطور نضج القصيدة النبوية، وصار حينئذ التماس التعبد بها طريقاً ممهداً. يرى الطيب أن أمر الروحانيات قديم في شعر العرب حتى قبل بعثة الرسول الكريم، ومثال ذلك عباد قريش الذين أورد لهم صاحب كتاب أنساب قريش شعراً كثيراً. وهو يرى أن المستشرقين هم الذين فرقوا بين الزهد والتصوف والأوصاف المعنوية والحسية، وذكروا تأثر العرب والمسلمين بالهند واليونان والفرس، في حين أن المسلم لم يكن في حاجة إلى التماس معاني الروحانية وشهود الحق عز وجل وعنده من الآيات القرآنية ما يغنيه عن تمثل هذه المعاني، ويعطي شواهد على ذلك من حديث موسى مع ربه في القرآن الكريم، وآيات أخرى عن الإسراء والمعراج، وعن الروح التي هي من أمر ربي. يدخل أيضاً في مجال التعبد، كما يرى الطيب، زهديات أبي العتاهية على ما قيل فيه وزهديات أبي نواس وأشعار أهل العقائد والتصوف كشعر الحلاج. ‘‘وقد فشت أساليب أهل التصوف التي في أشعارهم وأدعيتهم حتى تظرف باستعمالها الشعراء قبل زمان الحلاح وبعده وقد جاءت من أشعار المولدين في شعر أبي نواس.’’ هكذا ‘‘جعل مكان المديح النبوي يقوى في النفوس متصلاً بالعبادة مستقلا عن السياسة والتشيع. ومما قواه أن أساسه ودعامته حب النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر ذلك من أمر الكتاب والسنة قريب. يرى الطيب هنا كذلك أن المدحة النبوية ازدهرت بعد أن خبت جذوة القصيدة المادحة وأمثالها من قصائد الفخر وشكوى الحال والمراثي الحسان.’’ يصل الطيب بعد ذلك إلى طور النضج في القصيدة النبوية على يد شعراء كانوا مطبوعين لهم في الشعر باع طويل، ومع ذلك انصرفوا بقوى ملكاتهم كلها إلى تجويد المدح النبوي دون غيره من سائر أغراض الشعر يدفعهم إلى ذلك حب عميق لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرة على الدين الحنيف إذ دعاهم داعي الجهاد وتيسير من الله سبحانه وتعالى وتوفيق. هنا يشير الطيب بصفة خاصة إلى الصرصري (القرن السابع) والبرعي (القرن الثامن والتاسع) والبوصيري (القرن السابع، 608-696هـ) ويشبههم بالثلاثة المولدين الكبار، أبي تمام وأبي عبادة وأبي الطيب على الترتيب نفسه. (انظر ترجمة الصرصري في ورقة خارجية من النجوم الزاهرة). يقول الطيب عن البوصيري (ص115) إنه أمدُّ باعاً وأقدر على النظم وجر الأخبار لا من البرعي وسائر المداح النبويين وحدهم ولكن من كثير من كبار من تقدموا من الشعراء. لكنه يورد بعض شعر البرعي ويعلق عليه: يقول الطيب عن البوصيري (ص178)، أنه ‘‘في البردة سلك نهجاً غنائيًّا في نقد النصارى وفي تفضيل الإسلام والتنويه بفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم.’’ وهو يعطي أمثلة من البردة. قصائد المدائح النبوية في أعمال المستشرقين المعاصرين هناك ترجمات لبعض قصائد المديح النبوي مع مقدمات ودراسات مختصرة ومعمقة باللغة الإنجليزية. سوف نشير هنا إلى بعضها حتى نعطي فكرة عنها: - ‘‘بانت سعاد: ترجمة ومقدمة تأويلية.’’ مايكل سلز. مجلة الأدب العربي، 21 (1990م): 140-154. في هذه المقالة يقدم الكاتب القصيدة في بنيتها المتوازنة من ثلاثة أقسام: النسيب والرحلة والمديح. في هذا القسم الأخير يظهر الشاعر فضائل الرسول الكريم من خلال النمط الجاهلي التقليدي في المدح (ص142)، مركزاً على بعض الصور في القصيدة، مثل تشبيه سعاد بالغول عبر أقنعة متنوعة في قسم النسيب، وصورة ‘ثوب الليل’ في قسم الرحيل (ص146-147). - ‘‘ما وراء الكلمات: تأريخ النشوة الروحية والتجربة في الشعر الصوفي.’’ كيت فان بروكلين. جامعة براون، منشورة رقميًّا (خريف 2011م).- ‘‘من الجاهلية إلى البديعية: الشفوية، الكتابية، وتحولات البلاغة في الشعر العربي.’’ سوزان ستيتكيفيتش، مجلة التقاليد الشفوية، 25/1 (2010م): 211-230. هناك ترجمة إلى العربية من قبل خضر محمدم أبو جحجوح، مجلة الأكاديمية للدراسات الاجتماعية الإنسانية، الجزائر، 164، يناير 2016م، ص18-29. - ‘‘من النص إلى التميمة: قصيدة البردة للبوصيري وقصيدة التوسل.’’ سوزان ستيتكيفيتش، مجلة الأدب العربي، مج37، ع2 (2006م)، ص145-189. - ‘‘شعرية الاحتفال الصوفي: القصائد الاحتيالية (القلندريات) لسنائي، العطار، والعراقي.’’ ماثيو توماس ميللر (جامعة واشنطن في سانت لويس). أطروحة دكتوراه من 420 صفحة. هنا يطلق على المدائح النبوية ‘نعت الرسول’. والسنائي الغزنوي (1080-بين 1131 و1141م) أول الشعراء المتصوفة الثلاثة الكبار ممن كتبوا المثنويات في إيران. وفريد العطار ثانيهم وهو صاحب منطق الطير الذي يعد شبه ملحمة فيها تفسير شعري للتصوف الفارسي، عاش في القرن السادس الهجري، وثالثهم جلال الدين الرومي. أما العراقي فهو فخر الدين العراقي الهمداني (ت 688 هـ)، شاعر وعارف فارسي. القلندرية: طريقة صوفية تنسب إلى قلندر يوسف، قيل إنه أندلسي هاجر إلى المشرق. - ‘‘تأملات في الشعر العربي في العصر المملوكي.’’ توماس إميل هومرين (جامعة روتشستر)، (1997م). - أهمية بردة كعب بن زهير بالنسبة إلى الشعر الإسلامي الكلاسيكي والحديث. رسالة ماجستير للباحث حسام المجلي (طالب سعودي) (جامعة برانديس، ماساتشوتس)، مايو 2014م. من الواضح من تصفح الرسالة أنه يعتمد على عمل سوزان ستيتكيفيتش. - فهم قصيدة البردة في الشروح الصوفية. رسالة ماجستير، للباحثة روز أصلان (باحثة أرمنية)، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، يونيو 2008م. هي الآن أستاذ مساعد في جامعة كاليفورنيا اللوثرية، وقد حصلت على الدكتوراه من جامعة نورث كاليفورنيا، وكتبت أخيراً عن ‘‘الصلاة في حياة المسلمين الأمريكيين’’ (2017م)، و‘‘الدعوة والهدية من خلال دراسة الإسلام.’’ (2018م). - قصائد البردة: قصائد المدح العربية إلى النبي محمد. سوزان ستيتكيفيتش، مطبعة جامعة إنديانا، بلومنجتون 2010م. كتاب في 306 صفحة. سوف نعرض بإيجاز لهذا الكتاب الأخير لأنه يمثل معظم التوجهات الموجودة في الدراسات الأخرى، ولأن صاحبته ذات تأثير واضح على دراسات كثير من الباحثين من العرب وغير العرب. تذكر المؤلفة في تقديم كتابها أنها تقدم ترجمات أصيلة وتفسيرات سياقية لثلاث قصائد جد مشهورة في المديح النبوي في التراث العربي الإسلامي. تحيط القصائد الثلاث بقوس التاريخ الإسلامي: الأولى من حياة الرسول؛ والثانية من الحقبة المملوكية الوسيطة (أواخر القرن 13م)؛ والثالثة من الحقبة الاستعمارية الحديثة (1910م). أما هدف الدراسة فهو وضع هذه القصائد المعدودة في شهرتها في ضوء التأويل الأدبي المعاصر بحيث تحوز قيمتها ثقافيًّا وتأثيرها شعريًّا لدى القارئ المعاصر، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم. في الفصل الأول تعالج المؤلفة ‘‘قصيدة كعب بن زهير وقصة البردة’’؛ فترى أنها قصيدة تحول ديني لدى شاعر جاهلي مشهور، هو كعب بن زهير. إنها تقيم مناقشتها هنا على أساس أن قصيدة ‘‘بانت سعاد’’ لكعب بن زهير تؤسطر (=تحول إلى أسطورة) إعلان الشاعر إسلامه بحيث يمكن أن يرمز إلى تحوُّل عرب الجاهلية الوثنيين إلى الإسلام، كما يجسِّد، علاوة على هذا، استسلام التقليد الشعري الجاهلي للدين الجديد أو استغلال هذا الدين له. ومنذ هذه اللحظة فصاعداً، يصبح التقليد الشعري العربي، وخصوصاً قصيدة المدح، التعبير الأدبي-المراسيمي الأساسي عن الشرعية العربية-الإسلامية والولاء لها، وتصبح قصيدة ‘‘بانت سعاد’’ تعبيراً عن الخضوع للإسلام والإخلاص للنبي محمد لدى الأتقياء من المسلمين في كل الدنيا. تبدأ المؤلفة فصلها الثاني، ‘‘البوصيري وحلم البردة’’، بمراجعة موجزة للتطورات في النوع والأسلوب الأدبي التي حدثت في القصيدة العربية في الحقبة الممتدة بين كعب والبوصيري. وبعد أن تقدم تفسيراً للحكايات التي صاحب قصة البردة أو البرأة في حالة البوصيري، تعطي تفسيراً بنيويًّا للقصيدة تؤسس به لقراءة القصيدة نفسها. وهي تجادل هنا في أن البنية الخاصة للقصيدة تتطابق مع النمط التوسلي الذي شرحته في الفصل الأول، وبالتالي فإن طقوس التوسل في قصائد المديح النبوي القروسطية تتضمن أن ينجز الشاعر قصيدته في مقابل شفاعة الرسول يوم القيامة. من ثم تمضي المؤلف إلى بيان أن المقاطع الشعرية الممتدة الخاصة بموضوعات وأحداث من حياة النبي قد ألحقت بقسم المديح في القصيدة وهي تساعد على الإعلاء من إيديولوجية ما تطلق عليه المؤلفة ‘‘القدر الإسلامي الواضح’’“Islamic Manifest Destiny”، وهو ما تعده جدل بين العالم الدنيوي الذي يخدم بوصفه مقابلاً أرضيًّا أو مكملاً أرضيًّا للعالم الأخروي المتصل بيوم القيامة. إن قصيدة البوصيري بكليتها وتلك المقاطع عن حياة الرسول على نحو خاص تزودنا بنافذة نطل منها على المعتقدات والممارسات الإسلامية التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، على حد تعبير المؤلفة. تتناول المؤلفة في الفصل الثالث، ‘‘أحمد شوقي وإعادة نسج البردة’’، أي تلك القصيدة التي تعد معارضة لقصيدة البوصيري، وقد كتبها في 1910م، وكانت بمناسبة سفر الخديوي عباس حلمي الثاني، ولي نعمة الشاعر، إلى الحج في تلك السنة. وقد اكتسبت تلك القصيدة شهرة كبيرة سواء في شكلها الكتابي أو في صورتها الغنائية على لسان أم كلثوم في 1945م بتلحين رياض السنباطي. تفتتح المؤلفة هذا الفصل بمراجعة موجزة للسياق السياسي والثقافي لمصر في أوائل القرن العشرين. لقد وجدت مصر نفسها على الصعيد السياسي بين رحى الإمبراطورية العثمانية المحتضرة والاحتلال البريطاني. لقد أنتج العالم العربي، في استجابته لمواجهة مزدوجة أمام الغرب - بإنسانيته المتحررة وإمبرياليته المتوحشة معاً - نهضة أدبية وثقافية اتخذت مصطلح النهضة أو الإحياء. تمهد هذه الخلفية الطريق لتفسير قصيدة نهج البردة لأحمد شوقي: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم في تشكيلها الفني من منظور موقف مضاد للاستعمار، يمكن أن نطلق عليه ‘مشروع الإحياء’. ومن خلال قراءة فاحصة للقصيدة في ضوء شرح الشيخ سليم البشري لها، يتضح لنا كيف أن شوقيًّا ‘‘أعاد نسج’’ بردة البوصيري في شكل التماس ملئ بالقوة والطلاقة من أجل استعادة الأمة الإسلامية على أساس مفاهيم ‘‘إنسانية’’ يرسيها في التراث العربي-الإسلامي. تذهب المؤلفة في النهاية إلى أن البحث العلمي في المدائح النبوية حتى الآن لم يزل، في معظمه، محدوداً بمنظورات وصفية للظروف التاريخية التي أحاطت به وبمحتوياته الموضوعاتية، دون أي اعتراف ببنيتها الطقوسية وعلاقتها بفعاليتها الشعرية (والروحية). وهي ترى أنه بتفسير هذه الأعمال الشعرية في ضوء العناصر البنيوية لقصيدة التوسل، وبإلقاء الضوء على الوظيفة الأدائية لهذه القصائد بوصفها أفعالاً للكلام مع قوتها التحويلية، وبرؤيتها بوصفها جزءاً من تبادل طقوسي بين القصيدة والجائزة، فإن قصائد البردة تنجلي لنا عن السبب الذي جعل المدائح النبوية هذه استمرت عبر القرون في التعبير عن الحياة الشعرية والدينية للعرب والعالم الإسلامي. 0 خدمات المحتوى | تقييم |