الاحتراف سمة العصر وسبيل النهوض
هو احتراف من يؤدي وظيفة أو مهنة لوظيفته أو لمهنته، بمعنى أن يصبح متخصصاً بالغاً درجة الإتقان أو البحث والتطوير، ولعل من المفيد أن نبدأ بسند من الدين القويم كقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» والعمل هنا يشمل كل أنواع الوظائف والحرف اليدوية منها والفكرية، والاحتراف هو المتطلب الحاسم للإتقان فالفرق ــ على سبيل المثال ــ بين مهندسين أحدهما يقف عند حدود الوظيفة ويكتفي بما تعلمه في قاعات ومعامل الجامعة، يقوم بعمله لكنه لا يبدع ولا يتقدم وآخر يصح أن نسميه المحترف دائب البحث والاطلاع يجتهد للارتقاء بعلمه وعمله ويجتهد ليضيف إلى خبرته من خلال البحث والتجربة، ونؤكد على البحث والتجربة لأن كثيراً من المحترفين رواد لم يسبقهم أحد إلى ما يحاولون التوصل إليه في مجال صنائعهم، التخصص الدقيق والصبر والتضحية بالوقت والجهد سيوصل حتما إلى المعرفة الاحترافية التي تتميز عن مجرد المعرفة من حيث الشمول والعمق، ولك أن تتصور حال المهندسين السالف ذكرهما وكم سيكون الفارق بينهما بعد سنوات.
والحقيقة أن ثقافة الاحتراف ووفرة المحترفين هي ما ميزت البلاد المتقدمة صناعيا وحضاريا عن البلاد الأخرى، فعلى سبيل المثال ما هي الموارد الطبيعية في اليابان أو سويسرا؟ لا يوجد موارد سوى مجموعات من الخبراء والمتخصصين ممن يجوز أن نجمعهم تحت مسمى محترفين، هؤلاء هم الذين أحرزوا قصب السبق واكتسبوا المجد والثروة لبلادهم، استوردوا المواد الأولية بأثمان زهيدة من أصحابها الذين لم يحسنوا استغلالها فحولوها إلى سلع نفيسة وبضائع رابحة، كم تكلف المواد الخام الداخلة في صناعة ساعة (رولكس) التي تباع بخمسة آلاف دولار؟ قرأت في إحدى الصحف أن كل المواد الداخلة في صناعة طائرة (بوينج 747) لا تكلف أكثر من 8% من قيمة بيعها الإجمالية، أما الباقي فقيمة الوقت الذي أنفقته العقول المتميزة والأيدي الماهرة في صياغة هذه المعجزة العملاقة والرائعة، الموارد متوفرة للجميع لكن الاحتراف هو ما يصنع الفرق، كم من آلاف الدولارات يقطرها الصناع المهرة من برميل البترول الذي يباع اليوم بما يقرب من 80 دولار؟ أعد الحساب وستهولك النتيجة! أما في الوطن العزيز فإن للموضوع وجوهاً أخرى تتأثر بالجذور التاريخية والثقافة الاجتماعية إذ لم تنطلق نهضتنا المعرفية والصناعية العصرية إلا في عهد الدولة السعودية الحديثة فمفاهيم المحترف والخبير والمتخصص هي مفاهيم ومصطلحات جديدة لم ترسخ بعد في ذاكرتنا الاجتماعية، قليل منا من يذهب بعد وقت العمل للبحث فيما يفيد مهنته أو يلتحق بالدورات التطوعية دون مقابل، بل قد تصادف من لا يحسن أداء عمله أو يتهاون في واجبات وظيفته ومع ذلك فهو مقبول من المجتمع، فلا يعنف الطبيب أو الممرض الذي يقصر في أداء واجبه أو يتغيب أثناء وقت العمل فتموت أو تتأذى بغيابه أرواح بريئة، ولك أن تقيس على ذلك أصنافا من المقصرين، لا يلتفت إلا قليلا إلى سيرة الإنسان في مهنته ومدى حرفيته وجدارته عند تقييمه اجتماعيا وهذا ما يقودنا إلى النتيجة الحتمية وهي حاجتنا لتطوير ثقافتنا الاجتماعية لتركز على قيم العمل وتشجع الاختصاص والاحتراف في كافة المجالات، فكما هي حاجتنا للطباخ الماهر نحتاج للمهندس المبدع والحداد وغيرها من المهن (كل سيد في صنعته) لا يقوم أحد مكان الآخر ولا يغني عنه، لا بد من نهضة تشترك في بلورتها وترويجها مختلف فعاليات المجتمع، تبدأ من قاعات الدراسة ومنابر الجوامع إلى شاشات التلفزيون وصفحات الصحف وصولا إلى مجتمع يزيد في تقدير قيم العمل ويحترم الوقت والنظام، يكافئ المتقنين والمتفوقين ويعاقب المقصرين والمهملين.
سعيد شهاب
|