اقبل كعادته يجر أذيال الخيبة بعد أن كان يجر أذيال النصر والأنفة ... نظرت إليه وكأن أنظر إلى صفحة كتاب متهالك كان مشرقاً فيما مضى من الزمن ... أقبل وكأنّ المأساة تكتب قصة عنه ... فقد هويته وأنقضى من عمره الكثير يتجول بين ممرات وردهات الحي باحثاً عمن يخفف آلامه ويكفكف أحزانه اللامتناهيه ... يبحث عن بعض أقرانه الذي قضوا وانقرضوا وبات وحيداً فريداً يتسلى بمن بقي منهم يحتسي ريشفت من القهوة والشاي ويتحرك ربيع شبابه ويحكي قصص انتصاراته التي مل كثير من شباب اليوم من تكرارها والنفور من سمعاها . .. لقد كان سالف العصر يمر بي بين الفينة والأخرى ولقد مرت بي عواصف كثيرة أججت عواطف قلبي المحزون وأنا أرى ثلة الشيبان ممن اشتعل الرأس شيباً بهم وعقدوا مع الشيب صداقة وافية الأركان لا تنفك بحال من الأحوال رأيتهم ويحزنني منظرهم كثيراً ... لديهم رصيد لا بأس به من الانجازات والذاكريات التي تملأ صفحات أفواههم الثمينة ، ولكن أبوا أن يتلفظوا بها عند من لا يقدرها من شباب اليوم .
أين شباب اليوم من الاستفادة من القصص والروايات التي يذكرها شيباننا _ حفظهم الله _ في تعزيز الانتماء والصبر على المكاره والقوة في الحق صحيحٌ أن هناك مفارقات كثيرة وأحياناً زيادة في بعض الروايات ولكنها كالحديث الضعيف يستشهد به عند الموعظة ورعاية كبار السن مطلب حافظ عليه الاسلام ولم يركنه على لارف كما يفعل كثير من مجتمعاتنا اليوم فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: \"خير شبابكم من تشبه بكهولكم\" رواه الإمام السيوطي، أي: التشبه في سيرتهم فإنه يغلب عليهم الوقار والحلم وهما صفتان محمودتان.
وقد حفلت كثير من كتب التاريخ بالكثير من المواقف المشرفة عن الصحابة الكرام والسلف الصالح في هذا المجال فمنها على سبيل المثال لا الحصر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في سواد الليل، فرآه طلحة، فذهب عمر فدخل بيتاً ثم دخل بيتاً آخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا عجوز عمياء مقعدة. فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى.
وذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى عن ابن سعيد الأشج أنه قال: \"حدثنا بن ادريس، عن ليث، قال: كنت أمشي مع طلحة بن مصرف فقال: لو كنت أسن مني بليلة ما تقدمتك\"، فهذا خلقهم رحمهم الله فالأسن مقدم.
وذكر الإمام أبو يوسف الحنفي رحمه الله تعالى في كتابه الخراج \"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه فقال: من أي أهل الكتب أنت؟ قال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر رضي الله عنه بيده فذهب به إلى منزله، فأعطاه من المنزل شيء ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه،فوالله ما أنصفناه إذا أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، (( إنما الصدقات للفقراء والمساكين )) (التوبة- 60)، فالفقراء هم المسلمون والمساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.
وفي الوقت الذي كان المسن يجد فيه كل تقدير واحترام ورعاية وتوقير في المجتمع المسلم، وبتوجيه من دينه الحنيف، وتأييد من رسوله العظيم { نجد أن المسن يعيش في حالة متردية في بعض الحضارات الأخرى. فها هو أفلاطون مثلاً يرى أن \"العناية يجب أن توجه إلى أصحاب الأجسام السوية، والعقول القوية، وأما ما عداهم فيهملون ليكون نصيبهم الموت\".
ولعل ما ذكر كفاية وقليل من الملح يُطعم بالطعام ، ولكن ليعلم كل من كان هذا حاله كالأفلاطوني أن هذه ديون مسددة وآجال مكتوبة سوف عن قريب تنقلب الحال ولا تسطيع المقال وأرفع علم الافتخار والعزة لكبار السن مهما علموا فهم يستحقون منا الكثير والكثير والكثير ومهما قدمنا فإنا في حقهم مقصورن والبعض ممن لا خلاق لهم يرمونهم بدار المسنين لعجزهم عن رعايتهم والله يرعاهم بنصره وتأييده وحفظه والله سوف يندمون وبنار العقوقو يكتوون وفي الآخرة محاسبون وعن أعمارهم وأعمالهم مجزيون ولعلي اختم بهذه القصيدة المعبرة :