سهرة مع المتنبي
ما أجمل القراءة وخصوصا إن كانت حول شخصية عظيمة كأبي الطيب المتنبي فرغم ماتحويه مكتبتي من دواويين لشعراء العرب ابتداء من الجاهلية وانتهاء بعصر انحطاط اللغة بعد أن اتخذ أهلها لهجات متفرقة لا تختلف عن تفرق راياتهم وأهوائهم وحتى طرقهم في فهم الحديث وتأويله إلا أنني وبلا شعور أجد يدي تمتد إلى حيث رف المتنبي لأعيد قراءة ما كنت قد حفظته عن ظهر قلب لهذا الرجل الذي لم يجد احد في توصيفه كإجادة الدكتور زهير غازي الذي يصف المتنبي بأنه خلاصة الثقافة العربية الإسلامية في النصف الأول من القرن الرابع .
عاش المتنبي حياة متناقضة بكل ماتحملها الكلمة من معنى وللظروف المحيطة به دور في ذلك فالحالة السياسية كانت كذلك وقد يكون هذا السبب الحقيقي الذي دفع المتنبي للتنازل عن كبريائه في مواقف كثيرة بطريقة ميكافيلية كتلك التي استخدمها لمدح كافور الإخشيدي لعله يحصل منه على شيء ولكنه عندما أيقن بالإفلاس أزاح عن وجهه القناع ليهجوه بقصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها
عيد بأية حال عدت ياعيد = بما مضى أم لأمر فيه تجديد
ويستمر في التوجد على الزمان والحال إلى ان يصل إلى هجاء كافور قائلا
لا تشـتَـرِ الـعَـبـد إلا والـعَـصَـا مـعــه = إِن الـعَـبِـيــدَ لأنـــجـــاسٌ مناكيد
ليصل إلى قمة اليأس من الحياة مستغربا من الزمن الذي وصل به لدرجة أن يسيء له من هو اقل منه قدرا ويقصد بذلك كافور الإخشيدي وذلك في قوله :
مـا كُنـتُ أَحسَبُنـي أَحيـا إلـى زَمَـن = ٍيُسـيء لي فيـهِ عَبـد وَهْـوَ مَحمـودُ
والمتتبع لسيرة أبي الطيب يعلم علم اليقين أن شعره في المدح ليس كله مصطنعا فقد جمعته بسيف الدولة الحمداني أيام جميلة كان المتنبي فيها الشاعر الوحيد الذي يسمح له بأن يقول الشعر وهو جالس في مجلس سيف الدولة على عكس بقية الشعراء الذين كانوا ينشدون الشعر وقوفا بين يدي سيف الدولة الحمداني ولعل هذا شيء من أشياء جعلت الوشاة يقومون بدورهم المفضل وهوايتهم المقدسة بنقل الكلام وتهويل الأوهام لإيصالها إلى درجة الحقيقة حتى انهم اوهموا سيف الدولة بأن المتنبي كان يحب أخته واستدلوا على ذلك بقصيدة الرثاء التي قالها فيها بعد أن ماتت ويبدو أن سيف الدولة قد اقتنع بان الرثاء كان غزلا كما ان اعتداد المتنبي بنفسه كونه رجلا صاحب رأي ومبدأ قد يكون من ضمن اسباب فتور العلاقة لدرجة أن ابن خالويه أهان المتنبي في مجلس سيف الدولة فلم ينتصف له الأمير وهذا ماجرح كبرياء ابي الطيب لتنتهي حقبة بلاط سيف الدولة وقد وثق المتنبي نهاية هذه الفترة بقصيدة جميلة يقول في مطلعها
لا تطلبن كريماً بعد رؤيته= إن الكرام باسخاهم يدا ختموا
ومن أجمل أبيات العتاب التي وردت في نص المتنبي الأخير قبل أن يغادر حلب بعد أن قطع حبال ود سيف الدولة قوله في نفس القصيدة :
إن كان سركم ما قال حاسدنا = فليس لجرح إذا أرضاكم الم
ويبدو أن مشاكل سوء الفهم لم تقتصر على ماحصل بين المتنبي وسيف الدولة والمتتبع لشعر المتنبي يقرأ أبياتا كثيرة تدور حول نفس المعنى كقوله :
وكم من عائب قولا صحيحا = وآفته من الفهم السقيم
رحم الله المتنبي فكم عانى من سوء الفهم في زمنه !!
عودة سالم العنزي
www.odahs.com
|