الحِكْمةُ وَالعَقْلُ
بِسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
قال الله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة:269)
قال زيدُ بنُ أسلمَ: الحكمةُ: العقلُ.وقالَ مجاهِدُ بنُ جبرٍ: يعني بالحكمةِ: العلمَ والفقهَ والقرآنَ والإصابةَ في القولِ. وقال إبراهيمُ النخَعيُّ: الحكمةُ: الفَهمُ. وقال أبو مالكٍ: الحكمةُ: السنةُ.
(وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ) أي: وما ينتفعُ بالموعظةِ والتذكارِ إلا مَن له لُبٌّ وعقلٌ يعي به الخطابَ ومعنى الكلامِ. والألبابُ جمعُ لُبٍّ، قال في القاموس وشرحه للزبيدي: واللُّبُّ : خالِصُ كُلِّ شَيءٍ، كاللُّبابِ، بالضَّمّ، ومن المَجاز : لُبُّ الرَّجُل : ما جُعلَ في قلْبه من العَقْل، سُمِّيَ بِه لأنّه خُلاصَة الإِنسان، أَو أَنَّهُ لا يُسمَّى ذلك إِلاّ إِذا خَلُصَ من الهَوَى وشوائبِ الأَوْهَام ، فعلى هاذا هو أَخَصُّ من العَقْل .اهـ
وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه من الزلل المتعمد، وسمي حِجْراً؛ لأنه يحجر صاحبه فالحِجْرُ ، بالكسر : العَقْلُ واللُّبُّ ؛ لإِمساكِه ومَنْعِه وإِحاطتِه بالتَّمْيِيزِ ، وفي الكتاب العَزيز : { هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ} ( الفجر : 5 ) .
وسمي العقلُ أيضاً: نُهَى ونُهْيَةً لأنه يَنهاه عن القبيح قالَ في شرحِ القاموس: النُّهْيَةُ : ( العَقْلُ ) ، سُمِّيَت بذلكَ لأنَّه يَنْهَى عن القَبِيحِ ؛ ومنه حديثُ أَبي وائلٍ : ( قد عَلِمْتُ أنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ ) ، أَي عَقْل يَنْتَهِي به عن القبائِحِ ويدخلُ في المحاسِنِ . وقال بعضُهم : ذُو النُّهْيَةِ الذي يُنْتَهِي إلى رأْيهِ وعَقْلِه ؛ وأنْشَدَ ابنُ برِّي للخَنْساء :
فَتًى كانَ ذا حِلْمٍ أَصِيلٍ ونُهْيَةٍ ** إذا ما الحُبَا مِن طائِفِ الجَهْلِ حُلَّتِ
والنُّهَى – كهُدًى- وهو واحِدٌ بمعْنَى العَقْلِ ، ويكونُ جَمْعَ نُهْيَةٍ أَيْضاً ، وفي الحديثِ : ( ليَلِيَنِّي منكم أُولو الأَحْلامِ والنُّهىَ ) ، هي العُقُولُ والألْبابُ . وفي الكتابِ العزيزِ : { إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لأُولي النُّهى } . ورجُلٌ مَنْهاةٌ : أَي عاقِلٌ يَنْتَهِي إلى عَقْلِه.اهـ
والعُقلاءُ يَعرِفونَ عقولَ الناسِ مِن منطقِهم وكُتبِهم! قال زيادُ بن أبيهِ: ما قرأتُ كتاباً قطُّ لرجلٍ إلا عرفتُ مقدارَ عقلِهِ فيهِ.
وقال يزيدُ بن المهلبِ لابنِهِ حينَ استخلفَهُ على خراسانَ: إذا كتبتَ كتاباً فأكثِرِ النظرَ فيهِ، فإنَّما هو عقلُك تضعُ عليه طابَعَكَ، وإنَّ كتابَ الرجلِ موضعُ عقلِهِ، ورسولَه موضعُ رأيِهِ.
وقال الإمامُ عبدُ اللهِ بنُ المباركِ رحمه اللهُ: ما قرأتُ كتابَ رجلٍ إلا عرفتُ مقدارَ عقلِهِ.
وقال طريحُ بنُ إسماعيلَ الثقفيُّ -شاعرُ الوليدِ بنِ يزيدَ الأُمويِّ وخَليلُهُ-: عقولُ الرجالِ في أطرافِ أقلامِها.
وقالَ بعضُ البلغاءِ: يُستَدَلُ على عقَلِ الرجلِ بقولِهِ، وعلى أصلِهِ بفعلِهِ .
وعن الأَصْمَعي قال: سمعتُ أبا عمرِو بنَ العَلاَء البصري –وهو أحد أئمة القراء السبعة وأئمة العربية- يقول: الإنسانُ في فُسْحةٍ من عقلِه وفي سَلاَمةٍ من أَفْواهِ النَّاسِ ما لم يَضَعْ كتاباً أو يَقُلْ شِعراً.
و كانَ الإمام أبو حَنِيفةَ إذَا سُئِلَ عن شَيْءٍ مِنَ اللُّغةِ يقُولُ: إنَّها لَيْسَتْ مِنْ شَأْنِي ويَتَمَثَّلُ بهذه الأبياتِ:
إنَّ أهلَ القِياس في كلِّ فَنٍّ ** عند أهلِ العُقولِ كالمِيْزانِ
من تَحَلَّى بغير ما هو فيهِ ** فَضَحَتْه شَواهِدُ الامْتِحانِ
وجَرَى في السِّباقِ جَرْيَ سَلِيْبٍ ** خَلَفَتْه الجِيَادُ يَوْمَ الرِّهانِ
وقالَ عبدُ العزيز بنُ معاويةَ العتابيُّ: من صَنَع كتاباً فقدِ اسْتَشْرَف للمدحِ والذَّمِّ، فإن أحسنَ فقدِ اسْتُهْدِف الحَسَدَ والغِيْبةَ، وإن أساءَ فقد تَعرَّضَ للشَّتْمِ واسْتُقْذِفَ بكلِّ لسانٍ
وقال بعض الشعراء -ويروى لكَعْبِ بنِ سعْدٍ الغَنَويِّ أو لِطَرَفةَ بنِ العبدِ- :
وإنَّ لسانَ المرءِ ما لم تكن لَهُ ** حصاةٌ على عوراتِهِ لَدَلِيلُ
والحصاةُ : العقلُ والرأيُ، أَي إذا لم يَكُنْ مع اللِّسانِ عَقْل يحجُزُه عن بَسْطِه فيمَا لا يُحَبُّ دَلَّ اللِّسان على عَيْبِ بما يَلْفِظ به من عُورِ الكَلامِ.
وقالَ سهلُ بنُ هارونَ: القلمُ أنفُ الضميرِ، إذا رَعَفَ أعلنَ أسرارَه، وأبانَ آثارَهُ.
وفي الحكمةِ اليونانيةِ ما حكاه ابنُ عبد ربه عن أرسطاطاليس قال: عقولُ الرجالِ تحتَ أسِنَّةِ أقلامِهم.
وأخذَهُ صفيُّ الدينِ الحِلِّيُّ فقالَ:
تأملْ -إِذا ما كتبتَ الكتاب- ... سطورَكَ مِنْ بعدِ إِحكامِها
وهذِّبْ عبارةَ طرزِ الكلام ... واستوفِ سائرَ أقسامِها
فقد قيلَ إِن عقولَ الرجال ... تحتَ أسنةِ أقلامِها
و قيلَ للشَّعْبيِّ: أيّ شيء تَعرفُ به عقلَ الرجُلِ؟ قال: إذا كَتب فأجادَ.
قالَ يحيى بنُ خالدٍ البرمكيُّ: ثلاثةُ أشياءٍ تدلُّ على عقولِ الرجالِ: الكتابُ، والرسولُ، والهديةُ.
وقيل في منثورِ الحكمةِ : إذا تمَّ العقلُ نقَصَ الكلامُ .
وقال بعضُ الفصحاءِ : فَمُ العاقلِ مُلجَمٌ، إذا همَّ بالكلام أحجمَ ، وفمُ الجاهلِ مطلَقٌ كلما شاء أطلَقَ .
فكيفما تقولُ أو تكتبُ فذاكَ نتاجُ عقلِكَ، والناسُ تزِنَ عقلَكَ بما تكتبُ بيدِكَ أو تنطقُ بلسانِكَ!
والسلام.
كَتَبَهُ
سَعدُ بنُ شايمٍ الحضيريُّ
مدير الدعوة والإرشاد بمدينة عرعر
|