خيركم... (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد فقد كثر في الأحاديث النبوية بيان أَخْيَرِ الناس وأفضلِهم ونوط ذلك بصفات وأعمال جليلة استحق صاحبها تلك الخيرية، كقوله صلى الله عليه وسلم «خير الناس أحسنهم خلقا» وقوله: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» وقوله: «خيركم من أطعم الطعام» إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة. وقد أشار بعض الفضلاء من إخواننا بجمعها والكتابة فيها، فوافق ذلك رغبة عندي فجمعت ما وقفت عليه منها، وفرزت صحيحها من ضعيفها، وعزمت على شرحها بشرح موجزٍ وتعليق لطيف والله الموفق.
نتكلم أولاً في خيرية هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم:
قال الله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران : 110 )
قال ابن عباس، ومُجاهد، وعِكْرِمة، وعَطاء، والربيع بن أنس، وعطية العَوْفيّ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، يعني: خَيْرَ الناس للناس. وقال أبو هريرة نحن خير الناس للناس نسوقهم بالسلاسل إلى الإسلام وقال ابن عباس : هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدرا والحديبية وقال عمر بن الخطاب : من فعل فعلهم كان مثلهم وقيل : هم أمة محمد صلى الله عليه و سلم يعني الصالحين منهم وأهل الفضل وهم الشهداء على الناس يوم القيامة.
والمعنى: أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس, ففيها يمدح تعالى هذه الأمة ويخبر أنها خير الأمم التي أخرجها الله للناس، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به، وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم، فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس، لما كانت الآية التي قبلها بآيات وهي قوله: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران : 104 ) أمرا منه تعالى لهذه الأمة، والأمر قد يمتثله المأمور ويقوم به، وقد لا يقوم به، أخبر في هذه الآية أن الأمة قد قامت بما أمرها الله بالقيام به، وامتثلت أمر ربها واستحقت الفضل على سائر الأمم ولهذا قال: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) وفي هذا من دعوته بلطف الخطاب ما يدعوهم إلى الإيمان، ولكن لم يؤمن منهم إلا قليل، وأكثرهم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله المعادون لأولياء الله بأنواع العداوة.
روى الإمام أحمد في مسنده، والنسائي في سننه، والحاكم في مستدركه وصححه، من حديث سماك، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس في قوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة( )
قال الحافظ ابن كثير: والصحيح أن هذه الآية عامةٌ في جميع الأمة، كل قَرْن بحسبه، وخير قرونهم الذين بُعثَ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي: خيارا (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) الآية. وفي مسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجة، ومستدرك الحاكم، من رواية حكيم بن مُعَاوية بن حَيْدَة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أنْتُمْ خَيْرُهَا، وأنْتُمْ أكْرَمُ عَلَى اللهِ عزَّ وجَلَّ». وهو حديث مشهور، وقد حَسَّنه الترمذي. ويروى من حديث معاذ بن جبل، وأبي سعيد الخدري نحوه.
قال القرطبي: عن أبي هريرة { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال : تجرون الناس بالسلاسل إلى الإسلام قال النحاس : والتقدير على هذا كنتم للناس خير أمة وعلى قول مجاهد كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وقيل : إنما صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى فقيل : هذا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كما قال صلى الله عليه و سلم : «خير الناس قرني» أي الذين بعثت فيهم
وأذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم فقد روى الأئمة من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» الحديث وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدهم وإلى هذا ذهب معظم العلماء وأن من صحب النبي صلى الله عليه و سلم ورأه ولو مرة في عمره أفضل ممن يأتي بعده وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل.اهـ
هذا وإنما حازت هذه الأمة قَصَبَ السَّبْق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أشرفُ خلق الله أكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يُعْطِهِ نبيًّا قبله ولا رسولا من الرسل. فالعمل على منهاجه وسبيله، يقوم القليلُ منه ما لا يقوم العملُ الكثيرُ من أعمال غيرهم مقامه، كما روى الإمام أحمد: عن محمد بن علي، وهو ابن الحنفية، أنه سمع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ". فقلنا: يا رسول الله، ما هو؟ قال : «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأرْضِ ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ». وإسناده حسن . وله شاهد في الصحيحين عن جابر وغيره.
وعن أم الدرداء، رضي الله عنها، تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، وما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها، يقول إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا عِيسَى، إنِّي بَاعِثٌ بَعْدَكَ أُمَّةً، إنْ أَصَابَهُمْ مَا يُحِبُّونَ حَمِدُوا وشَكَرُوا، وإنْ أصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا، وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ». قال: يَا رَبِّ، كَيْفَ هَذَا لهُمْ، وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ؟. قال: «أُعْطِيهِمْ مِن حِلْمِي وعلمي». رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط والحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وخالفهم الألباني فضعفه، والله أعلم وللحديث صلة....
سعد بن شايم
مدير الدعوة والارشاد بمدينة عرعر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 )المسند (1/319) والنسائي في السنن الكبرى (11072) والمستدرك (2/294) وقال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.
|