الحمد لله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى والخليل المجتبى الذي والله مامات حتى ترك السبيل نهجا واضحا صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد :
إن المتأمل اللبيب لحال زماننا ومافيه من فتن مستطيرة وانتشار الأثرة وأمور منكرة ليستذكر كلام خير البرية صلى الله عليه وسلم
ستكونُ فتنٌ،القاعدُ فيها خيرٌ من القائمِ، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي ، من تشرَّفَ لها تستشرِفُه..). صحيح البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم : (تكونُ بينَ يديِ الساعَةِ فِتَنٌ كقِطَعِ الليلِ المظلِمِ ، يُصْبِحُ الرجلُ فيها مؤمنًا ، ويُمْسِي كافِرًا ، ويُمْسِي مؤمنًا ، ويُصْبِحُ كافِرًا ، يبيعُ أقوامٌ دينَهم بِعرَضٍ مِنَ الدنيا ) رواه أنس بن مالك رضي الله عنه وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع .
نعوذ بالله من الفتن ماظهر منها ومابطن ، والمتأمل في حقيقة الفتن يعلم أنها
من قضاء الله وقدره (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
وقال جل جلاله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت: 2-3]
فنبينا صلى الله عليه وسلم حذرنا من الفتن واستشرافها أيما تحذير ، ولايقول عاقل يخشى الله جل وعلا أن مايقع في هذه الأزمنة المضطربة لم يأتي الاسلام بعلاجها بل قد حذر منها قبل وقوعها كما أخبر بذلك نبي الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ ، إنَّ السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ ، إنَّ السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ ، ولَمَن ابتُلِيَ فصَبَر ؛ فوَاهًا ) صححه الألباني في مشكاة المصابيح .
لكن الملاحظ على فئات من الناس الانغماس في الفتن والتساهل بدماء المسلمين فلا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم .
وفي وقوع الفتن يسترشد الناس بالعلماء الربانيين العاملين ، قال تعالى : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].
قال العلامة عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله: هذا تأديب من الله لعباده ، عن فعلهم هذا ، غير اللائق . (أي إذاعة الأخبار)
وأنه ينبغي لهم ، إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة ، والمصالح العامة ، ما يتعلق بالأمن ، وسرور المؤمنين ، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم ، أن يتثبتوا ، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر .
بل يردونه إلى الرسول ، وإلى أولي الأمر منهم ، أهل الرأي ، والعلم والنصح ، والعقل ، والرزانة ، الذين يعرفون الأمور ، ويعرفون المصالح وضدها .
فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين ، وسرورا لهم ، وتحرزا من أعدائهم ، فعلوا ذلك .
وإن رأوا ليس فيه مصلحة ، أو فيه مصلحة ، ولكن مضرته تزيد على مصلحته ، لم يذيعوه . ولهذا قال : (( لعلمه الذين يستنبطونه منهم)) أي : يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة ، وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية ، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ، ينبغي أن يولي من هو أهل لذلك ، ويجعل إلى أهله ، ولا يتقدم بين أيديهم ، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ .
وفيه النهي عن العجلة والتسرع ، لنشر الأمور ، من حين سماعها .
والأمر بالتأمل قبل الكلام ، والنظر فيه ، هل هو مصلحة ، فيقدم عليه الإنسان ، أم لا ؟ فيحجم عنه ؟ ثم قال تعالى : (( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ))
أي : في توفيقكم ، وتأديبكم ، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون. (( لاتبعتم الشيطان إلا قليلا )) لأن الإنسان بطبعه ، ظالم جاهل ، فلا تأمره نفسه إلا بالشر .
فإذا لجأ إلى ربه ، واعتصم به ، واجتهد في ذلك ، لطف به ربه ، ووفقه لكل خير ، وعصمه من الشيطان الرجيم . اهـ كلامه عليه رحمة الله.
فلا يتصدى لهذا الأمر الخطير المدلهم إلا العلماء الربانيين العاملين ، لايتصدى لها المتعالمون حتى وإن سمى نفسه ماسمى أو أطلقوا عليه مفكر اسلامي ، ناشط سياسي ، حقوقي ، فهؤلاء والله مصيبة كبرى لما يتصدروا الأحداث المدلهمة التي تحتاج للعارفين من أهل العلم بها .
وحين التأمل في حال بعض من يتسمى بالمفكر الاسلامي وما يتكلم به من أمور عظيمة فقد شابه أهل الكلام السابقين في زمانهم ، ففي هذا الزمان المفكرين وفي السابق المتكلمين .
المتكلمين حكموا عقولهم ليستدلوا مع توافر النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وبعض المفكرين حكموا عقولهم وجعلوها قياسا ً وإن عارضت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ، فهذا مفكر لايأخذ بحديث الذباب الصحيح لأنه لايتناسب مع الطب زعما ً منه ولا يتناسب مع عقله وذوقه ، وهذا يطعن في الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم شل لسانه ، وهذا لامانع من مصاحبة الرافضي والصوفي وغيره من الملل المنحرفة لطابع سياسي لمنصب وغيره وقد يكون لغرض تكوين أحزاب فانظروا وتأملوا .
يقول ابو اسماعيل الهروي في كتابه ذم الكلام في جنايات المتكلمين :
(استفضلوا الرسول فانظر أنت إلى أحدهم إذ لا هو طالب أثره ولا متبع أخباره ولا مناضل عن سنته ولا هو راغب في أسوته يتقلب بمرتبة العلم وما عرف حديثا واحدا تراه يهزأ بالدين ويضرب له الأمثال ويتلعب بأهل السنة ويخرجهم أصلا من العلم لا تنقر لهم عن بطانة إلا خانتك ولا عن عقيدة إلا أرابتك أليسوا ظلمة الهوى وسلبوا هيبة الهدى فتنبو عنهم الأعين وتشمئز منهم القلوب) اهـ .
( تأملات )
هذا رد للعلامة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء حفظه الله تعالى على سؤال عجيب غريب فنسأل الله العافية والسلامة :
السائل : سمعت في أحدى القنوات الفضائية من أحد المفكرين أنه يقول من الحكمة التعاون مع الجماعات الاسلامية ضد العلمانية وغيرهم .
فرد الشيخ الفوزان حفظه الله تعالى وأمد الله في عمره على طاعته :
لا . غير صحيح مانتعاون مع أهل الباطل ، مانتعاون مع الفرق الضالة أبدا ً . إنما نتعاون مع إخواننا المستقيمين على طاعة الله وعلى المنهج السليم نتعاون معهم ، أما المنحرفون والضالون والمخالفون لأهل السنة والجماعة فلا نتعاون معهم لأن هذا تعاون على الإثم والعدوان وتبرير لما هم عليه نعم ، وبعدين ماينفعوننا يقولون اللي ماهوب على دينك مايعينك وهو مثل عامي وهو صحيح اللي ماهوب على دينك مايعينك . اهـ . من الدروس الصيفية لكبار العلماء .
انظروا لفقه العلماء الربانيين وسعة علمهم ولضحالة المفكرين وسوء أفكارهم واستدلالاتهم .
العلماء هم المفكرون حقيقة ً وهم أصحاب المشورة والرأي السديد لا مفكر متغطرس عنيد لايأخذ ولايستدل بالكتاب العزيز ولابسنة أشرف الخلق أجمعين .
واختم بما ختم به الإمام السجزي رحمه الله رسالته في الرد على من أنكر الحرف والصوت - فصل الحادي عشرفي الحذر من الركون إلى كل أحد والأخذ من كل كتاب لأن التلبيس قد كثر والكذب على المذاهب قد انتشر :
(…اعلموا رحمنا وإياكم الله سبحانه ، أن هذا الفصل من أولى هذه الفصول بالضبط لعموم البلاء وما يدخل على الناس بإهماله ، وذلك أن أحوال أهل الزمان قد اضطربت والمعتمد فيهم قد عز ومن يبيع دينه بعرض يسير أو تحبباً إلى من يراه قد كثر (والكذب على المذاهب قد انتشر فالواجب ) على كل مسلم يحب الخلاص ( أن ) لا يركن إلى كل أحد ولا يعتمد على كل كتاب ولا يسلم عنانه إلى من أظهر له الموافقة .… فمن رام النجاة من هؤلاء والسلامة من الأهواء فليكن ميزان الكتاب والأثر ـ في كل ما يسمع ويرى فإن كان عالماً بهما عرضه عليهما ـ واتباعه للسلف .
إلى أن قال رحمه الله تعالى : (…فليحذر كل مسلم مسئول ومناظر من الدخول فيما ينكره على غيره وليجتهد في اتباع السنة واجتناب المحدثات كما أمر وليعلم أن الله سبحانه لو أراد أن يكل الأمر إلى الناس ويأمرهم بالاجتهاد فيه برأيهم لفعل لكنه أبى ذلك وأمرهم ونهاهم ثم ألزمهم الاجتهاد في القيام بما أمروا به واجتناب ما نهوا عنه ) . بتصرف
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ماظهر منها ومابطن اللهم أحينا على التوحيد والسنة وأمتنا على التوحيد والسنة يارب العالمين .
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .